خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير : القرآن الكريم ومنهجه في عمارة الكون
خطبة الجمعة القادمة بعنوان : القرآن الكريم ومنهجه في عمارة الكون ، للدكتور خالد بدير ، بتاريخ 12 رجب 1444هـ ، الموافق 3 فبراير 2023م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 3 فبراير 2023م ، للدكتور خالد بدير : القرآن الكريم ومنهجه في عمارة الكون :
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 3 فبراير 2023م ، للدكتور خالد بدير: القرآن الكريم ومنهجه في عمارة الكون ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 3 فبراير 2023م ، للدكتور خالد بدير : القرآن الكريم ومنهجه في عمارة الكون ، بصيغة pdf أضغط هنا.
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
للمزيد علي قسم خطبة الجمعة القادمة
عناصر خطبة الجمعة القادمة 3 فبراير 2023م ، للدكتور خالد بدير : القرآن الكريم ومنهجه في عمارة الكون : كما يلي:
أولًا: وجوبُ عمارةِ الأرضِ وعدمُ الإفسادِ فيهَا
ثانيًا: عمارةُ الأرضِ ضربٌ مِن ضروبِ العبادةِ
ثالثًا: بينَ عمارةِ الدنيا وعمارةِ الآخرةِ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 3 فبراير 2023م ، للدكتور خالد بدير: القرآن الكريم ومنهجه في عمارة الكون : كما يلي:
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأنَّ مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ. أمَّا بعدُ:
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة
أولًا: وجوبُ عمارةِ الأرضِ وعدمُ الإفسادِ فيهَا
إنَّ القرآنَ الكريمَ نورٌ وهدايةٌ للكونِ كلِّهِ، قالَ تعالى:{ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.(المائدة: 15 ، 16)، وأهل القرآن هم أهل اللهِ المكرَّمونَ في الدنيا والآخرةِ ، يقولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: “هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ” .( أحمد وابن ماجة بسند حسن).
وَلقد عَنِيَ الإسلامُ بعمارةِ الأرضِ ورعايةِ الكونِ عنايةً خاصةً وأولاهَا اهتمامًا مشهودًا، فاللهُ سبحانَهُ وتعالى خلقَ الكونَ وهيأَ فيهِ الظروفَ المُثلَى للحياةِ السعيدةِ المستقرةِ، ثم استخلفَ فيه الإنسانَ ليقومَ بإعمارهِ على الوجهِ الأكملِ الذي يحققُ بهِ مرضاةَ ربهِ، وخدمةَ بنِي جنسهِ، وخدمةَ الكونِ مِن حولهِ، قالَ تعالَى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [هود: 61]، وعندما عرضَ القرآنُ قصةَ بدءِ الخليقةِ والنشأةِ الأُولَى أشارَ – في سياقِ ذلك – إلى أنَّ أكبرَ مهددٍ لاستمرارِ الحياةِ الطبيعيةِ على هذا الكوكبِ الوليدِ إنَّما يأتِي مِن سفكِ الدماءِ والإفسادِ في الأرضِ، يقولُ سبحانَهُ وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]؛ فالإفسادُ – الذي هو ضدُّ الإعمارِ – أكبرُ خطرٍ يهددُ الحياةَ، وهو البندُ الأولُ مِن المهدداتِ التي استشعرتهَا الملائكةُ الكرامُ أثناءَ الحوارِ عن الأرضِ وخليفتِهَا، ومِن ثمَّ فقد حذَّرَ المولَى تعالى أشدَّ تحذيرٍ مِن هذه الماحقةِ المدمرةِ، قالَ تعالى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60]، وقال:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}[الأعراف: 56]، وجرّمَ إراقةَ الدماءِ –بغيرِ حقٍّ- أيّمَا تجريمٍ وحرّمَ الاعتداءَ على الممتلكاتِ الخاصةِ أو على مالكِيهَا.
وفي سياقِ التشريعِ القانونِي وضُعتْ أشدُّ عقوبةٍ وأقساهَا في الإسلامِ ضدَّ المفسدين في الأرضِ يقولُ تعالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة: 33]، لذلك شدَّدَ ﷺ في عقوبةِ الإفسادِ في الأرضِ أيّمَا تشديدٍ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ، أَوْ قَالَ: عُرَيْنَةَ، وَلاَ أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: مِنْ عُكْلٍ، قَدِمُوا المَدِينَةَ «فَأَمَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» فَشَرِبُوا حَتَّى إِذَا بَرِئُوا قَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُدْوَةً، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي إِثْرِهِمْ، فَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ حَتَّى جِيءَ بِهِمْ «فَأَمَرَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، فَأُلْقُوا بِالحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ» قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: «هَؤُلاَءِ قَوْمٌ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ». [البخاري ومسلم ]. هذا في سياقِ مَن يقطعُون الطريقَ أمامَ عمارةِ الأرضِ وازدهارِهَا.
ولقد ضربَ لنَا رسولُ اللهِ ﷺ أروعَ الأمثلةِ في العملِ والبناءِ والتعميرِ، فكان يقومُ بمهنةِ أهلهِ، يغسلُ ثوبَهُ، ويحلبُ شاتَهُ، ويرقعُ الثوبَ، ويخصفُ النعلَ، ويعلفُ بعيرَهُ، ويأكلُ مع الخادمِ، ويطحنُ مع زوجتهِ إذا عييتْ ويعجنُ معهَا، وكان يُقَطِّعُ اللحمَ مع أزواجهِ، ويحملُ بضاعتَهُ مِن السوقِ، ونحرَ في حجةِ الوداعِ ثلاثًا وستينَ بدنةً بيدهِ، وكان ينقلُ الترابَ يومَ الخندقِ حتى اغبرَّ بطنُهُ، وكان ينقلُ مع صحابتهِ اللبنَ – الطوبَ الترابِي- أثناءَ بناءَ المسجدِ، فعملَ فيهِ رسولُ اللهِ ﷺ ليرغبَ المسلمينَ في العملِ والبناءِ والتعميرِ، فقامَ المهاجرون والأنصارُ وعملُوا بجدٍّ ونشاطٍ حتى قالَ أحدُهُم:
لئِن قعدنَا والنبيُّ يعملُ ……. لذاك مِنّا العملُ المضللُ
لقد ربَّي النبيُّ ﷺ صحابَتَهُ الكرامَ على الجدِّ والاجتهادِ والعملِ مِن أجلِ عمارةِ الكونِ، فكانَ منهُم التجارُ البارعون- وهذه أسواقُ الجاهليةِ تشهدُ بذلك: سوقُ عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، وبنو قينقاع، وحباشة – وهذا خبابّ بنُ الأرتِ كان حدادًا، وعبدُ اللهِ بنّ مسعودٍ كان راعيًا، وسعدُ بنُ أبي وقاصٍ كان يصنعُ النبالَ، والزبيرُ بنُ العوامِ كان خياطًا، وبلالُ بنُ رباحٍ وعمارُ بنُ ياسرٍ كانَا خادمَيْنِ، وسلمانُ الفارسي كان حلاقًا ومؤبرًا للنخلِ، وخبيرًا بفنونِ الحربِ، والبراءُ بنُ عازبٍ وزيدُ بنُ أرقمٍ كانَا تاجرَيْنِ. (راجع فتح الباري لابن حجر) .
وهكذا يحثُّنَا الدينُ الإسلاميُّ الحنيفُ على العملِ والاجتهادِ مِن أجلِ عمارةِ الكونِ وبنائِهِ وازدهارِهِ.
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة
ثانيًا: عمارةُ الأرضِ ضربٌ مِن ضروبِ العبادةِ
مِن عظمةِ الإسلامِ وروحهِ أنَّه صبغَ أعمالَ الإنسانِ – أيًّا كانت هذه الأعمالُ دنيويةٌ أو أخرويةٌ – بصبغةِ العبادةِ إذا أخلصَ العبدُ فيهَا للهِ سبحانَهُ وتعالي، فالرجلُ في حقلهِ، والصانعُ في مصنعهِ، والتاجرُ في متجرِهِ، والمدرسُ في مدرستِهِ، والزارعُ في مزرعتِهِ، والمهندسُ في مشروعِهِ….. إلخ، كلُّ هؤلاءِ الذين يعملونَ مِن أجلِ عمارةِ وطنهِم وبلادهِم يعتبرونَ في عبادةٍ إذا ما أحسنُوا واحتسبُوا وأخلصُوا النيةَ للهِ تعالي في عملِهِم، فالفردُ مع أنَّه يعملُ مِن أجلِ العيشِ والبقاءِ والحصولِ على زادٍ يقيمُ صلبَهُ ومِن أجلِ بناءِ وتعميرِ بلدِهِ، إلَّا أنَّه في عبادةٍ للهِ سبحانَهُ وتعالي، وهذا هو الفارقُ بينَ العاملِ المسلمِ الذي يرجُو ثوابَ الآخرةِ قبلَ ثوابِ الدنيا، بل إنَّ اللهَ تعالي جعلَ الضربَ والسعيَ في الأرضِ جهادًا في سبيلِ اللهِ، قالَ تعالي: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّه وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }. (المزمل: 20). قالَ الإمامُ القرطبيُّ – رحمَهُ اللهُ – في تفسيرهِ لهذهِ الآية: “سوّى اللهُ تعالَي في هذه الآيةِ بينَ درجةِ المجاهدين والمكتسبين المالَ الحلالَ، فكان هذا دليلاً على أنَّ كسبَ المالِ بمنزلةِ الجهادِ؛ لأنَّه جمعَهُ مع الجهادِ في سبيلِ اللهِ”. ( الجامع لأحكام القرآن).
وهذا ما أكدَهُ الرسولُ ﷺ لأصحابهِ، فعَنْ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ، قَالَ: ” مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ”. [ الطبراني بسند صحيح ] ، وكما قال ﷺ لسيدِنَا سعدٍ: ” إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ”. (البخاري).
بل إنَّ الإسلامَ يذهبُ إلى أبعد مِن ذلك، فيعدُّ المعاشرةَ الزوجيةَ طاعةً وقربةً وعبادةً مع أنَّ فيها مآربَ أخرَى للزوجين، وفي ذلك يقولُ النبيُّ ﷺ: “وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟! قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟! فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا”(مسلم). يقولُ الإمامُ النوويُّ –ر حمَهُ اللهُ -: ” في هذا دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تصيرُ طاعاتٍ بالنياتِ الصادقاتِ، فالجماعُ يكونُ عبادةً إذا نوَى بهِ قضاءَ حقِّ الزوجةِ ومعاشرتهَا بالمعروفِ الذي أمرَ اللهُ تعالَى بهِ، أو طلبَ ولدٍ صالحٍ، أو إعفافَ نفسهِ أو إعفافَ الزوجةِ ومنعهمَا جميعًا مِن النظرِ إلى حرامٍ، أو الفكرِ فيهٍ، أو الهمِّ بهِ، أو غيرِ ذلك مِن المقاصدِ الصالحةِ.” ( شرح النووي على مسلم). فالإسلامُ يعتبرُ سعىَ الإنسانِ على نفسهِ وولدهِ جهادًا وعبادةً يُثابُ عليهَا في الآخرةِ، ولو فطنَ كلُّ فردٍ إلى هذه الحقيقةِ لمَا توانَي لحظةً في أداءِ عملهِ، بل إنَّه يسارعُ إلى أداءِ عملهِ بجودةٍ وإتقانٍ وإخلاصٍ، لا مِن أجلِ الحصولِ على المالِ فسحب، وإنَّما مِن أجلِ بناءِ وتعميرِ بلدهِ ووطنهِ، ومِن أجلِ الثوابِ الجزيلِ والأجرِ العظيمٍ الذي أعدَّهُ اللهُ لهُ في الآخرةِ.
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة
ثالثًا: بينَ عمارةِ الدنيَا وعمارةِ الآخرةِ
كثيرٌ مِن الناسِ يظنُّ أنَّ هناك تعارضًا بينَ عمارةِ الدنيا وعمارةِ الآخرة، وهذا فهمٌ خاطئٌ ؛ لأنَّ الإسلامَ حثَّ على العملِ مِن أجلِ عمارةِ الحياةِ والقوامِ فيهَا، كما حثَّ على عملِ الآخرةِ لأنَّ عليه مدارَ الثوابِ والعقابِ، وما الدنيا إلّا مزرعةٌ للآخرةِ، قال اللهُ تعالَى: { وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77) . قال ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهِ: “أي استعملْ ما وهبَكَ اللهُ مِن هذا المالِ الجزيلِ والنعمةِ الطائلةِ في طاعةِ ربِّك، والتقربِ إليهِ بأنواعِ القرباتِ، التي يحصلُ لك بها الثوابُ في الدنيا والآخرةِ، ولا تنسَى ما أباحَ اللهُ فيها مِن المآكلِ والمشاربِ والملابسِ والمساكنِ والمناكحِ.”أ.ه ولقد قدّمَ لنا الصحابةُ رضي اللهُ عنهم نموذجًا عمليًّا لقضيةِ الجمعِ بينَ الدنيا والآخرةِ، فقد كانوا في قمةِ الدينِ، وكانوا يحصلونَ الدنيا أيضًا. وثمّةَ أسماءٍ لامعةٍ لعلماءٍ مسلمين في مجالاتٍ متعددةٍ لا يُنكِرُ علمَهُم وتقدمَهُم إلّا جاهلٌ أو مكابرٌ، منهم: ابنُ النفيسِ والزهراوي في الطبِّ، وابنُ الهيثمِ في الرؤيةِ والضوءِ، والخوارزمِي في الرياضياتِ، وغيرُهُم كثيرٌ وكثيرٌ.
فعلى المسلمِ أنْ يوازنَ بينَ عملِ الدنيا وعملِ الآخرةِ، وأنْ يهتمَّ بعملِ الآخرةِ؛ لأنَّه هو الذي يصحبُهُ معهُ في الآخرةِ، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : أَتَى رَجُلٌ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيُوَدُّعُونَهُ ، فَقَالَ : ” إِنِّي مُوصِيكَ بِأَمْرَيْنِ إِنْ حَفِظْتَهُمَا حُفِظْتَ : إِنَّهُ لَا غِنَى بِكَ عَنْ نَصِيبِكَ مِنَ الدُّنْيَا ، وَأَنْتَ إِلَى نَصِيبِكَ مِنَ الْآخِرَةِ أَفْقَرُ ، فَآثِرْ نَصِيبَكَ مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى نَصِيبِكَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَظِمَهُ لَكَ انْتِظَامًا ، فَيَزُولُ بِهِ مَعَكَ أَيْنَمَا زُلْتَ ” . (القصاص والمذكرين لابن الجوزي). وفي هذا المعنى يقولُ حاتمٌ الأصمُّ رحمَهُ اللهُ:” نظرتُ إلي الخلقِ فرأيتُ كلَّ واحدٍ يحبُّ محبوبًا، فإذا ذهبَ إلي القبرِ فارقَهُ محبوبُهُ؛ فجعلتُ الحسناتِ محبوبِي فإذا دخلتُ القبرَ دخلتْ معِي”. وكما جاء في الأثرِ: اعملْ لدنياكَ كأنّكَ تعيشُ أبدًا، واعملْ لآخرتِكَ كأنّكَ تموتُ غدًا .
قال ابنُ الأثيرِ رحمَهُ اللهُ :” الظاهرُ مِن مَفْهُومِ لفظِ هذا الأثرِ: أمَّا في الدنيا فَلِلْحثِّ على عِمارتِهَا ، وبقاءِ الناسِ فيها حتى يَسْكُنَ فيها، ويَنْتَفعَ بهَا مِن يَجيءُ بعدَكَ ، كمَا انْتَفَعْتَ أنتَ بعَمَلِ مَن كان قبلَكَ ، وسَكَنْتَ فيمَا عَمَرَهُ، فإنّ الإنسانَ إذا عَلمَ أنَّه يَطُولُ عُمْرُهُ أحْكَمَ ما يَعمَلُهُ، وحَرصَ على ما يَكْسِبُهُ، وأمّا في جانِبِ الآخرةِ فإنَّه حَثٌّ على إخلاصِ العملِ، وحُضُورِ النّيَّةِ والقَلْبِ في العباداتِ والطاعاتِ، والإكْثارِ منها، فإِنّ مَن يَعْلم أنَّه يموتُ غَداً يُكْثر مِن عبَادَتِهِ ، ويُخْلِص في طاعتِه، كقولهِ في الحديثِ الآخرِ: (صَلِّ صَلاَة مُوَدِّعٍ) .أ.ه
فالعبدُ الكيسُ الفطنُ الذي يجمعُ بينَ عملِ الدنيا بعمارةِ الكونِ وبينَ عملِ الآخرةِ بإخلاصِ نيتهِ فينالَ الأجرَ والثوابَ الجزيلَ مِن ربِّ العالمين، وبذلك قدْ عمَّرَ دنياهُ وأخراهُ!! ومَن لم يقدمْ شيئًا لوطنهِ ومجتمعهِ وآخرتهِ فإنَّهُ يكرَهُ الانتقالَ إلى الآخرةِ، وقد سألَ سليمانُ بنُ عبدِ الملكِ أبا حازمٍ الزاهد قائلًا: يا أبَا حازم مالنَا نكرَهُ الموت ؟!.
قال : لأنَّكم خربتُم الآخرةَ ، وعمرتُم الدنيَا فكرهتُم أنْ تنتقلُوا مِن العمرانِ إلى الخرابِ!. قال : أصبتَ يا أبا حازم.
فعلينَا أنْ نجتهدَ لنعمرَ دنيانَا بالعملِ والجدِّ والاجتهادِ، ونعمرَ آخرتَنَا بالطاعةِ والعبادةِ، ولا سِيّمَا ونحن في أشهرٍ مباركةٍ، فرجبُ شهرُ الزرعِ، وشعبانُ شهرُ السقيِ ورمضانُ شهرُ الحصادِ .
نسألُ اللهَ أنْ يباركَ لنَا في رجبَ وشعبانَ وأنْ يبلغَنَا رمضانَ
وأنْ يحفظَ مصرَنَا وبلادَنَا مِن كلِّ مكروهٍ وسوءٍ.
الدعاء،،،، وأقم الصلاة،،،، كتبه : خادم الدعوة الإسلامية د / خالد بدير بدوي
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف